فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشنقيطي:

{وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أنه لو اجل الخلق بالعقوبة لأهلك جميع من في الأرض، ولكنه حليم لا يعجل بالعقوبة. لأن العجلة من شأن من يخاف فوات الفرصة، ورب السموات والأرض لا يفوته شيء أراده، وذكر هذا المعنى في غير هذا الموضع. كقوله في آخر سورة فاطر: {وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45]. الأية، وقوله: {وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب} [الكهف: 58]. الآية، وأشار بقوله: {ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مسمى} إلى أنه تعالى يمهل ولا يهمل، وبين ذلك في غير هذا الموضع. كقوله: {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار} [إبراهيم: 42]، وقوله: {وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَاءهُمُ العذاب} [العنكبوت: 53].
وبين هنا: أن الإنسان إذا جاء أجله لا يستأخر عنه، كما أنه لا يتقدم عن وقت أجله، وأوضح ذلك في مواضع أخر. كقوله: {إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَاء لاَ يُؤَخَّرُ} [نوح: 4]. الآية، وقوله: {وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْسًا إِذَا جَاء أَجَلُهَآ} [المنافقون: 11]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
واعلم- أن قوله تعالى: {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} [النحل: 61]. فيه وجهان للعلماء:
احدهما- أنه خاص بالكفار لأن الذنب ذنبهم، والله يقول: {وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام: 164]، ومن قال هذا القول قال: {من دابة} أي كافرة، ويروى هذا عن ابن عباس، وقيل: المعنى أنه لو أهلك الآباء بكفرهم لم تكن الأبناء.
وجمهور العلماء، منهم ابن مسعود، وأبو الأحوص، وأبو هريرة، وقال الآخر:
تهوى حياتي وأهوى موتها شفقا ** والموت أكرم نزال على الحرم

وقد ولدت امرأة أعرابي أنثى، فهجرها لشدة غيظه من ولادتها أنثى فقالت:
ما لأبي حمزة لا يأتينا ** يظل بالبيت الذي يلينا

غضبان ألا نلد البنينا ** ليس لنا من أمرنا ما شينا

وإنما نأخذ ما أعطينا ** تنبيه

لفظة جعل تأتي في الغة العربية لأربعة معان:
الأول: بمعنى اعتقد. كقوله تعالى هنا: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} [النحل: 57]. قال في الخلاصة: وجعل اللذ كاعتقد.
الثاني: بمعنى صير كما تقدم في الحجر. كقوله: {وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُورًا} [نوح: 16]. قال في الخلاصة:
والتي كصيرا وأيضًا بها ** انصب مبتدأ وخبرا

الثالث: بمعنى خلق. كقوله: {الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَجَعَلَ الظلمات والنور} [الأنعام: 1]. أي خلق الظلمات والنور.
الرابع: بمعنى شرع. كقوله:
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ** ثوبي فأنهض نهض الشارب السكر

قال في الخلاصة:
كأنشأ السائق يحدو وطفق ** كذا جعلت وأخذت وعلق

وقوله في هذه الآية الكريمة {سُبْحَانَهُ} أي تنزيها له جل وعلا عما لا يليق بكماله وجلاله، وهو ما ادعوا له من البنات سبحانه وتعالى عن ذلك علوًا كبيرًا وغيرهم كما نقله عنهم ابن كثير وغيره- على أن الآية عامة.
حتّى إن ذنوب بني آدم لتهلك الجعل في حجره، والحبارى في وكرها، ونحو ذلك. لولا أن الله حليم لا يجعل بالعقوبة، ولا يؤاخذهم بظلمهم.
قال مقيدة عفا الله عنه: وهذا القول هو الصحيح. لما تقرر في الأصول من: أن النكرة في سباق النفي إذا زيدت قبلها لفظة {من} تكون نصًّا صريحًا في العموم، وعليه فقول {من دابة} يشمل كل ما يطلق عليه اسم الدابة نصًّا.
وقال القرطبي في تفسيره: فإن قيل: فكيف يعم بالهالك مع أن فيهم مؤمنًا ليس بظالم؟ يجعل هلاك الظلام انتقامًا وجزاء، وهلاك المؤمن معوضًا بثواب الآخرة.
وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أراد الله بقومٍ عذابًا أصاب العذاب من كان فيهم، ثمَّ بُعِثُوا على أعمالهم» اه محل الغرض منه بلفظه، والأحاديث بمثله كثيرة معروفة.
وإذا ثبت في الأحاديث الصحيحة: أن العذاب إذا نزل بقوم عم الصالح والطالح، فلا إشكال في شمول الهالك للحيوانات التي لا تقعل، وإذا أراد اله إهلاك قوم أمر نبيهم ومن آمن منهم أن يخرجوا عنهم. لأن الهلاك إذا نزل عم.
تنبيه:
قوله: {مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ} الضمير في {عليها} راجع إلى غير مذكور وهو الأرض. لأن قوله: {من دابة} يدل عليه، لأن من المعلوم: أن الدواب إنما تدب على الأرض، ونظيره قوله تعالى: {مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ} [فاطر: 45]، وقوله: {حتى تَوَارَتْ بالحجاب} [ص: 32]. أي الشمس ولم يجر لها ذكر، ورجوع الضمير غلى غير مذكور يدل عليه المقام كثير في كلام العربزومنه قول حميد بن ثور:
وصهباء منها كالسفينة نضجت ** به الحمل حتى زاد شهرًا عديدها

فقوله: صهباء منها أي من الإبل، وتدل له قرينة كالسفينة مع أن الإبل لم يجر لها ذكر، ومنه أيضًا قول حاتم الطائي:
أماوى ما يغني الثراء عن الفتى ** إذا حشرجت يومًا وضاق بها الصدر

فقوله: حشرجت وضاق بها يعني النفس، ولم يجر لها ذكر. كما تدل له قرينة وضاق بها الصدر، ومنه أيضًا قول لبيد في معلقته:
حتى إذا ألقت يدًا في كافر ** وأجن عورات الثغور ظلامها

فقوله: ألقت أي الشمس، ولم يجر لها ذكر، ولكن يدل له قوله:
وأجن عوات الثغور ظلامها

لأن قوله: ألقت يدًا في كافر أي دخلت في الظلام، ومنه ايضًا قول طرفة في معلقته:
على مثلها أمضي إذا قال صاحبي ** الا ليتني أفديك منها وأفتدي

فقوله: افديك منها أي الفلاة، ولم يجر لها ذكر، ولكن قرينة سياق الكلام تدل عليها.
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة: {يؤاخذ} الظاهر أن المفاعلة فيه بمعنى الفعل المجرد. فمعنى آخذ الناس يؤاخذهم: أخذهم بذنوبهم. لأن المفاعلة تقتضي الطرفين، ومجيئها بمعنى المجرد مسموع نحو: سافر وعافى، وقوله: {يؤاخذ} إن قلنا إن المضارع فيه بمعنى الماضي فلا إشكال، وإن قلنا: إنه بمعنى الاستقبال فهو على إيلاء لو المستقبل وهو قليل. كقوله: {وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُواْ عَلَيْهِمْ} [النساء: 9]، وقول قيس بن الملوح:
ولو تلتقي أصداؤنا بعد موتنا ** ومن دون رمسينا من الأرض سيسب

لظل صدى صوتي وإن كنت رمة ** لصوت صدى ليلى يهش ويطرب

والجواب بحمله على المضي في الآية تكلف ظاهر، ولا يمكن بتاتًا في البيتين، وأمثلته كثيرة في القرآن وفي كلام العرب، وقد أشار لذلك في الخلاصة بقوله:
لو حرف شرط في مضي ويقل ** إيلاؤها مستقبلًا لكن قبل

{وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ}.
أبهم جل وعلا في هذه الآية الكريمة هذا الذي يجعلونه لله ويكرهونه. لأنه عبر عنه ب {ما} الموصولة، وهي اسم مبهم، وصلة الموصول لن تبين من وصف هذا المبهم إلا أنهم يكرهونه، ولكنه بين في كواضع آخر: أنه البنات والشركاء وجعل المال الذي خلق لغيره، قال في البنات: {وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات} [النحل: 57]. ثم بين كراهيتهم لها في آيات كثيرة، كقوله: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى} [النحل: 58]. الآية، وقال في الشركاء: {وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَاء} [الأنعام: 100]. الآية، ونحوها من الآيات، وبين كراهيتهم للشركاء في رزقهم بقوله: {ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلًا مِّنْ أَنفُسِكُمْ هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَاء فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَاء تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} [الروم: 28]. أي إذا كان الواحد منكم لا يرضى أن يكون عبده المملوك شريكًا له مثل نفسه في جميع ما عنده. فكيف تجعلون الأوثان شركاء لله في عبادته التي هي حقه على عباده! ويبن جعلهم بعض ما خلق الله من الرزق للأوثان في قوله: {وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَمِنَ الحرث والأنعام نَصِيبًا} [الأنعام: 136].- إلى قوله- {سَاء مَا يَحْكُمُونَ} [الأنعام: 136]، وقوله: {وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِّمّا رَزَقْنَاهُمْ} [النحل: 56]. كما تقدم.
قوله تعالى: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى}.
ذكر جل وعلا في هذه الآية الكريمة: أن الكفار يقولون بألسنتهم الكذب. فيزعمون أن لهم الحسنى والحسنى تأنيث الأحسن، قيل: المراد بها الذكور. كما تقدم في قوله: {وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ} [النحل: 57]، والحق الذي لا شك فيه: أن المراد بالحسنى: هو زعمهم أنه إن كانت الآخرة حقًا فسيكون لهم فيها أحسن نصيب كما كان لهم في الدنيا، ويدل على صحة هذا القول الأخير دليلان:
أحدهما- كثرة الآيات القرآنية المبينة لهذا المعنى. كقوله تعالى عن الكافر: {وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَمَا أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِّعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى} [فصلت: 50]، وقوله: {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْرًا مِّنْهَا مُنْقَلَبًا} [الكهف: 36]، وقوله: {وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا} [مريم: 77]، وقوله: {وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلاَدًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ} [سبأ: 35]، وقوله: {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات} [المؤمنون: 55-56]. الآية، إلى غير ذلك من الآيات.
والدلي الثاني: أن الله أتبع قوله: {أَنَّ لَهُمُ الحسنى} بقوله: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار} الآيةز فدل ذلك دلالة واضحة على ما ذكرنا، والعم عند الله، والمصدر المنسبك من {أن} وصلتها في قوله: {وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى} في محل نصب، بدل من قوله: {الكذب} ومعنى وصف ألسنتهم الكذب قولها لكذب صريحًا لا خفاء به.
وقال الزمخشري في الكشاف في تفسير قوله تعالى: {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب} [النحل: 116]. الآية ما نصه: فإن قلت: ما معنى وصف ألسنتهم الكذب؟ قلت: هو من فصيح الكلام وبليغه، جعل قولهم كأنه عين الكذب ومحضه. فإذا نطقت به ألسنتهم فقد حلت الكذب بحليته، وصورته بصورته. كقولهم: وجهها يصف الجمال، وعينها تصف السحر.اهـ.
قوله تعالى: {لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النار وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ}.
في هذا الحرف قراءتان سبعيتان، وقراءة غير سبعية. قرأه عامة السبعة ما عدى نافعًا {مُفْرَطُون} بسكون الفاء وفتح الراء بصيغة اسم المفعول. من أفرطه، وقرأ نافع بكسر الراء بصيغة اسم الفاعل. من أفرط، والقراءة التي ليست بسبعية بفتح الفاء وكسر الراء المشددة بصيغة ايم الفاعل من فرط المضعف، وتروى هذه القراءة عن أبي جعفر، وكل هذه القراءات له مصداق في كتاب الله.
أما على قراءة الجمهور: {مفرطون} بصيغة المفعول فهو اسم مفعول أفرطه: إذا نسيه وتركع غير ملتفت إليه. فقوله: {مفرطون} أي متركون منسيون في النار، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هذا} [الأعراف: 51]، وقوله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هاذا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد} [السجدة: 14]. الآية، وقوله: {وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا وَمَأْوَاكُمُ النار} [الجاثية: 34]، فالنسيان في هذه الآيات معناه: الترك في النار. أما النسيان بمعنى زوال العلم: فهو مستحيل على الله. كما قال تعالى: {وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا} [مريم: 64]، وقال: {قَالَ عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى} [طه: 52].
وممن قال بأن معنى {مفرطون} منسيون متركون في النار: مجاهد، وسعيد بن جبير، وقتادة وابن الأعرابي، وأبو عبيدة، والفراء، وغيرهم.
وقال بعض العلماء: معنى قوله: {مفرطون} على قراءة الجمهور: أي مقدكون إلى النار معجلون. من أفرطت فلانًا وفرطته في طلب الماء: إذا قدمته، ومنه حديث: «أنا فرطكم على الحوض» اي متقدمكم، ومنه قول القطامي:
فاستعجلونا وكانوا من صحبتنا ** كما تقدم فراط لوراد

قول الشنفرى:
هممت وهمت فابتدرنا وأسبلت ** وشمر مني فارط متمهل

اي متقدم إلى الماء، وعلى قراءة نافع فهو اسم فاعل أفرط في الأمر: إذا أسرف فيه وجاوز الحد. يشهد لهذه القراءة قوله: {وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار} [غافر: 43]، ونحوها من الآيات، وعلى قراءة أبي جعفر، فهو اسم فاعل، فرط في الأمر: إذا ضيعه وقصر فيه، ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ يا حسرتى على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله} [الزمر: 56]. الآية. فقد عرفت أوجه القراءات في الآية، وما يشهد له القرآن منها.
وقوله: {لاَ جَرَمَ} اي حقًا أن لهم النار، وقال القرطبي في تفسيره: لا رد لكلامهم {وتم الكلام} اي ليس كما تزعمون! جرم أن لهم النار! حقًا أن لهم النار!وقال بعض العلماء: {لا} صله، و{جرم} بمعنى كسب. أي كسب لهم عملهم أن لهم النار. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)}.
هذه الجملة معترضة جوابًا عن مقالتهم التي تضمّنها قوله تعالى: {وإذا بشر أحدهم بالأنثى} [سورة النحل: 58]. فإن لها ارتباطًا بجملة {ويجعلون لله البنات سبحانه} [سورة النحل: 57]. كما تقدّم، فهي بمنزلة، جملة سبحانه، غير أن جملة سبحانه جواب بتنزيه الله عمّا نسبوه إليه، وهذه جواب بتحقيرهم على ما يعاملون به البنات مع نسبتهم إلى الله هذا الصّنف المحقرّ عندهم.
وقد جرى الجواب على استعمال العرب عندما يسمعون كلامًا مكروهًا أو منكرًا أن يقولوا للنّاطق به: بِفيك الحَجَر، وبفيك الكَثْكَث، ويقولون: تربت يداك، وتربت يمينك، واخسأ.
وكذلك جاء قوله تعالى: {للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء} شتمًا لهم.
والمَثَل: الحال العجيبة في الحسن والقبح، وإضافته إلى السوء للبيان.
وعُرّفوا بـ {الذين لا يؤمنون بالآخرة} لأنهم اشتهروا بهذه الصّلة بين المسلمين، كقوله تعالى: {فالذين لا يؤمنون بالآخرة قلوبهم منكرة وهم مستكبرون} [سورة النحل: 22]، وقوله: {بل الذين لا يؤمنون بالآخرة في العذاب والضلال البعيد} [سورة سبأ: 8].
وجملة {ولله المثل الأعلى} عطفت على جملة {للذين لا يؤمنون بالأخرة مثل السوء} لأن بها تكملة إفساد قولهم وذمّ رأيهم، إذ نسبوا إلى الله الولد وهو من لوازم الاحتياج والعجز.